مفهوم مصطلح القيمة والمصطلحات المرتبطة به
حيث إن غايتنا من البحث والدراسة لموضوع القيم؛ هي بناء فلسفة جديدة، وأطر نظرية أصيلة، ومناهج وأدلة علميّة؛ تحوّل تلك الأطر النظريّة إلى نواتج تطبيقية، وأدوات عملية؛ تساعد الأفراد والمؤثرين على حد سواء في تمكين قيمهم، وقيم من يرعونهم ويؤثرون فيهم، فإن هذه الغاية ستقودنا إلى تعريف القيمة وتحديد المفاهيم المرتبطة بها.
ونستعرض فيما يلي فهمنا لمصطلح القيمة، ومنظومات القيم، ومجموعة من المفاهيم الرئيسة التي تؤسس لبناء قاعدة صلبة لفهم موضوع القيم، يمكن للمهتمين والباحثين الذين يستندون إلى منهجيتنا؛ الاسترشاد بها:
مفهومٌ مجرد، يُشير إلى ما يتبناه الفرد أو المنظمة أو المجتمع أو الوطن من معتقد ذي صبغة أخلاقية أو توجيهية، يتضمن تفضيلات تتحول إلى: مبادئ حافزة وموجهة للسلوكات والمواقف والاختيارات.
وهو أيّ فرد أو كيان اعتباري يؤثر في الأفراد وفي بيئاتهم ومؤسساتهم الداعمة، لكنه لا يملك السلطة عليهم، وغير مسؤول عنهم قانونيًا؛ مثل قادة الرأي في العالم، ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، ومؤسسات المجتمع المدني، ويساهم المؤثرون غير المسؤولين بشكلٍ فاعل في نشر ثقافة القيم وتمكينها عند الأفراد من خلال القيم التي ينشرونها؛ ويتعرض لها الفرد (طفل أو طالب أو عامل أو أي فرد في المجتمع أو الوطن) الذي يقع تحت تأثيرهم طيلة دورة حياته وفي جميع البيئات الداعمة التي يوجد فيها، والشكل التالي يوضح ذلك.
وهي المكان الذي ينشأ الفرد أو يتعلم أو يعمل فيه، وهنا لا بد من الأخذ بالحسبان أنّ متطلبات البيئة الحاضنة لتكون بيئة داعمة؛ لتحقيق قيمها تختلف من بيئة إلى أخرى، وتنقسم البيئات الحاضنة إلى سبعة أنواع رئيسة على النحو التالي:
الأولى: بيئة الفرد الشخصية
باعتبارها حاضنة لقيمه الشخصيّة، وهي بيئة ذاتية متنقلة مع الفرد في كل البيئات الأخرى.
الثانية: بيئة الأسرة
سواءً كانت أسرة طبيعية، صغيرة أو كبيرة، أو أسرة بديلة كما في حال الأيتام.
الثالثة: بيئة التعلّم والتعليم
بجميع مراحل التعليم؛ ابتداءً من رياض الأطفال وانتهاءً بالمرحلة الجامعية، ومرورًا بكل أشكال المؤسسات التعليمية.
الرابعة: بيئة العمل المؤسسي بجميع أنواعه
وهي كيان اعتباري؛ تمتاز بوجود نظام واضح المعالم، ولها قائد ينظم علاقاتها وعملها، وهدف محدد تسعى إليه.
الخامسة: بيئة المجتمع
مهما كان حجم هذا المجتمع، فقد يكون مجتمعًا على مستوى حي، أو مجتمع مدينة، أو مجتمع عرقي، وقد تكون مجتمعات عدة منضوية تحت الوطن، أو تكون أوطانًا عدة منضوية تحته، مثل المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي.
السادسة: بيئة الوطن
وهو البلد الذي يرتبط به المواطنون ارتباطًا تاريخيًا طويلًا، والمنطقة التي تولدت فيها الهوية الوطنية لهم، وفيه يشعر المواطن بارتباطه به والانتماء إليه.
هي البيئة التي توفّر متطلبات القيم التي تتبناها، وتهيء كل ما يمكن لتمكينها عند الأفراد المنتمنين لها.
المعايير / | الذات |
المنظمة الأسرة، المدرسة، المؤسسة |
المجتمع | الوطن | العالم | الفضاء الإلكتروني |
المؤثر والراعي والقائد |
معروف ( الفرد |
معروف ومتفق عليه الوالدان . المعلم. المدير |
غير معروف وغير متفق عليه في الغالب |
معروف ومتفق عليه الحاكم |
معروف ومتفق عليه المنظمات الدولية |
معروف وغير معروف غير متفق عليه قادة الرأي |
المكان |
متنقّل مع الفرد |
محصور في مكان محدد |
متنوع |
كامل أرض الوطن |
الأرض | الفضاء |
عدد الأفراد |
واحد |
معروف ومحدد |
غير محدد | محدد | محدد | غير محدد |
النظام والقانون |
ذاتي |
مكتوب ومعلن وملزم. لكنه غير مكتوب عند الأسرة. |
العرف يحل محل القانون والنظام |
مشتق من الدستور | القانون الدولي | لا يخضع لأحد |
مصطلحات مهنية مشتهرة
كثيرة هي المصطلحات المرتبطة بمجال الأعمال، ولها تداخل مع القيم، ومنها ثلاثة مصطلحات رئيسة؛ تتشابه وتختلط على البعض، وهي:
1. الأخلاق العامة (Public Morality) ومصدرها المجتمع؛ أيًا كان، وما يعتقده أفراده من شرائع وأعراف وعادات وتقاليد، وهي أخلاق ملزمة اجتماعيًا فقط، وليست ملزمة قانونًا.
2. أخلاقيات المهنة (Professional Ethics) ومصدرها القانون، وتختص بمهنة محددة؛ كأخلاقيات الطب أو المحاماة، وهي أخلاق ملزمة للعاملين بقوة القانون، ومخالفتها تستوجب المحاسبة والعقاب.
3. القيم المؤسسيّة (Corporate Values) ومصدرها نظام مؤسسة العمل، ويمكن أن يكون هناك أيضًا؛ قيم مؤسسية لمؤسسة مهنية كالمستشفى مثلاً، غير أنها خلاف أخلاقيات مهنة الطب، وهي قيم متنوعة، فبعضها قد يكون إلزاميًا، ويحاسب عليه القانون؛ كقيمة النزاهة، وبعضها تفضلي غير ملزم كقيمة الابتكار.
وتشترك تلك المصطلحات الثلاثة في بعض مكوناتها مع أن لها استقلالية تامة.
كما أن هناك مصطلحات أخرى لأدبيات ووثائق لهذه الأنواع الثلاثة، ومنها على سبيل المثال:
منظومة القيم (Value system)
- ميثاق الشرف (Code of Conduct)
- الميثاق الأخلاقي (Code of Ethics)
- مدونة السلوك (Behavior Blog)
- قواعد السلوك (Behavior Basics)
- قواعد السلوك المهني (Standards of Professional Behavior)
- مدونة قواعد السلوك (Code of Behavior)
- المبادئ العامة (General Principles)
ويمكن أن تتشابه أيضًا محتويات تلك الوثائق أو تختلف اختلافًا تامًا، وذلك يعتمد على التعريف الذي يضعه مُعّد هذه الوثائق والغاية منها.
مرجعية القيم
القيم كمصطلح ليس له مرجعيّة في الفكر الفلسفي والأخلاقي والإداري إلى ما قبل مائة عام تقريباً كما تم بيانه سابقاً حين استعراض إشكال المصطلح، غير أن له مرجعية في معناه الأقرب للقيم والمرادف لها تجوّزاً وهو الأخلاق، ورصد كثير من الباحثين مرجعية الأخلاق في أفكار فلاسفة أغلب الحضارات الصينية والهندية واليونانية والمصرية وغيرها التي تظهر تبياناً في مرجعيتها بين المثالية والواقعية والدينيّة المحرّفة والأساطير وتعدد الآلهة التي ينسبون لها الخير والشر والأخلاق المرتبطة بها وأن الأخلاق نسبيّة أو مطلقة.
وقد استعرض الدكتور (حسن ملكاوي 2016) مرجعيّة الأخلاق والقيم – وهو يخلط بينهما – استعراضاً مركزاً ومختصراً عرض فيه أفكار بعض فلاسفة ومفكري الغرب ابتداءً بميكافيللي وانتهاءً بفردريك نيتشه وماكس فيبر مروراً بديكارت وبيكون وأوجست كونت، وأكد الملكاوي استمرار ذلك التباين الذي كان في الفلسفات القديمة لمرجعية الأخلاق والقيم وأنها لا تتفق على مرجعية واحدة، أما في الفكر الإسلامي فمرجعية الأخلاق والقيم واحده وهي للدين ومصادره التشريعية.
مرجعية القيم في فلسفة الرواد
عوداً على إشكال المصطلح الذي خلط بين القيم والأخلاق وتأكيداً لفهمنا بأن الأخلاق أحد أنواع القيم واستناداً للفروقات التي ذكرناها بين القيم والأخلاق، وكما أنه يجب الفصل بين المصطلحين فإنه يجب أيضاً فصل المرجعيتين، فمرجعية الأخلاق بصفة عامة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها وبينها الرسل عليهم السلام وأكملها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال (إنما بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق) رواه أحمد وغيره، فمهما تعددت الثقافات والأديان وحتى وإن تجردّ الانسان من الدين بالكلية فإن مصدر الأخلاق هو فطرة الإنسان السويّة.
أما مرجعية القيم فتعود إلى المالك والراعي لها على اختلاف أنواعهم ( الوالدين، المعلمين، المدراء، قادة المجتمع، الحاكم، المنظمات الدولية) فهم مصدر ومرجعية القيم التي يتبنونها وينشرونها ويمكنونها عند الأفراد المنضوين في البيئات التي تحت مسؤلياتهم، فيتبنى كل راعٍ منهم قيماً خاصة ببيئته، وفق مرجعياته الخاصة والتي نرى أنها في الغالب مرجعيتان أساسيتان وهما الفطرة السليمة والنفعيّة الماديّة فيصدر بعض قيم بيئته من هذين المرجعين حسب ما تحقق له تلك القيم غاياته التي يسعى لتحقيقها في بيئته التي يملكها، ويمكن أن تكون كل مكونات منظومة مؤسسته أو بيئته أخلاقية فطرية ويمكن أن تكون نفعيّة ماديّة ويمكن أن يجمع بينهما.
فالأمانة قيمة مؤسسية أصلها ومرجعيتها للفطرة السليمة بينما قيمة الابتكار قيمة نفعيّة في جوهرها ومرجعيتها.
كما يمكن أن يكون للقيمة الواحدة مرجعيتان غير متضادتين كأن تكون أخلاقية ونفعية مثل قيمة رضا العميل.
القيم والتربية
يرتبط موضوع القيم بموضوع التربية كمجال علمي، وكحديث للمهتمين وأفراد المجتمع، وحيث إنه سبق الحديث عن مصطلح القيم، فسنتناول ابتداءً مصطلح التربية قبل مناقشة ارتباطها بالقيم، وما يتبعه من عمليات ومسؤوليات.
انتشر مصطلح التربية حديثًا وارتبط بدور الوالدين والمعلمين معًا، ويشير المصطلح في الكتب الحديثة الموجهة إلى الوالدين إلى معانٍ كثيرة، تركّز على إكساب الأخلاق والقيم والآداب، وتجاوز ذلك أغلب الباحثين إلى كل العمليات التي تتم في المؤسسات التعليميّة؛ حتى سُمّيَتْ: الكليات الجامعية التي تؤهل المعلمين بكليات التربية، وبعض وزارات التعليم في العالم العربي تسمى: وزارة التربية، أو التربية والتعليم.
فهل هذا المصطلح واضح ومحدد المفهوم؟ وهل استخدامه الشائع في مجال التعليم ودور الأسرة والمدرسة في تعزيز القيم صحيحٌ؟ أم أن هناك غموضاً وخلطاً في الأدوار المكوِّنة للعملية أو في هدفها؟ أو في تحديد المسؤول عنها، والمستفيد منها؟ ثم ما الأثر الذي ظهر في المجتمع العربي بتداول مصطلح التربية؟
كلمة (التربية) بكافة تصريفاتها لم تَرِد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ولا في أمهات معاجم اللغة حسب علمنا إلا بمعنى الزيادة والتنمية والتغذية والارتفاع، ولا تشير للتعريف السائد والشائع حاليًا، الذي يجمع بين مسؤولية الأسرة والمدرسة (ابن منظور؛ 1993، الجوهري؛ 1987، الرازي؛ 1999، الفيروز آبادي؛ 2005).
ويرادف أغلب الباحثين العرب مصطلح التربية بالمصطلح الإنجليزي (Education) بينما الترجمة العربية الصحيحة لمصطلح (Education) هي التعليم وليست التربية، وهذا هو معناها أيضًا في معاجم اللغة الإنجليزية، وتعني: عملية التدريس أو التعلّم، التي تتم في مدرسةٍ أو كلية، أو المعرفة التي تحصّل عليها الطالب منها.
أمّا: ما العمل الذي يقوم به الوالدان تجاه أبنائهم في اللغة الإنجليزية ويُقابلُ المعنى السائد في مصطلح التربية؛ فيعبر عنه بمصطلحات أخرى كثيرة منها (rising) ومعناها التنشئة أو الرفع، (Parenting) الوالدية أو الأبوة، (Caring) الرعاية والاهتمام.
Oxford Learner’s Dictionaries (2021).; Merriam-Webster (2021).; Camridge Dictionary (2021)1.
وإن سلّمنا -جدلاً- بأن المقصود بمصطلح التربية كما هو شائع: إكساب المتلقّي الأخلاق والقيم والآداب، فلا يمكن أن يكون ترجمة لمصطلح (Education) الذي يعني: عمليات التعليم.
ولم نستطع معرفة من أول من استخدم مصطلح التربية من الباحثين العرب في العصر الحديث بهذا المعنى، واعتبره ترجمة لمصطلح Education، لمعرفة وجهة نظره في الترجمة.
التربية في النصوص الشرعيّة والتراث الإسلامي
ورد في القرآن الكريم جذر كلمة (التربية) في أكثر من موضع، وأولها في فاتحة الكتاب (الحمد لله رب العالمين) وغيرها من الآيات الكريمات التي لا تشير إلى دور الوالدين عدا قوله تعالى (كما ربياني صغيرا) سورة الإسراء آية 24، وقوله تعالى (ألم نربكّ فينا وليداً) سورة الشعراء آية 18، وتفاسير القرآن الكريم تفسر (رب) بالسيد المطاع، وفعْل (ربّى) بالتنمية والزيادة والتغذية، (الاصفهاني؛1991، الزمخشري؛ 2009، القرطبي؛ 2006، ابن عاشور؛ 1984).
ولم نجد حسب علمنا مصطلح «التربية» أو دعوةً إلى التربية، أو مشتقات الكلمة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الموجِّهة للوالدين، ومَن في حكمهم، عدا بعض الأحاديث التي ورد فيها جذر الكلمة مثل قوله صلى الله عليه وسلم (كما يُربِّي أحدكم فلوَّهُ) أخرجه البخاري (١٤١٠)، ومسلم (١٠١٤) أي كما يغذي أحدكم ولَدَ فرسه أو أو ناقته.
وفي كتب التراث الإسلامي -حسب علمنا – لم يرِد مصطلح التربية بصفته فعلاً يقوم به الوالدان، فضلاً عن المعلمين، بل ورد بشأن التربية في كتب التراث الإسلامي مصطلحات أخرى، كالتأديب والتزكية، والتهذيب، والتنشئة (ابن تيمية؛ 1995، الغزالي؛ 1989، ابن جماعة؛ 2012، ابن خلدون؛ 1996).
عند التعبير باسم المكان الذي تتم فيه عمليات التعليم والتدريس وطلب العلم في اللغة العربية نجد كلمات متعددة ومنها: (المدْراس) « مكان تعلم اليهود للتوراة»، و(حلقة العلم)، و(مجلس العلم)، و(المقْرأة)، و(الكُتّاب) أو (الكتاتيب) و (المدرسة).
كل هذه الأسماء تشير إلى فعل متضمَّن بها وهو: الدراسة، والعلم، والقراءة، والكتابة. ولا تتضمن عمليات التربية، التي منها: التأديب، التهذيب، والتأديب أوالتنشئة، وحسب علمنا لا يوجد اسم للمكان الذي تتم فيه عمليات التربية.
واسم الفاعل المستخدَم في مكان التعليم هو: (العالِم) و(المعلِّم) و(المدرِّس) و(المحفِّظ). ومهنتهم وحرفتهم هي التعليم، ولم يرد – حسب علمنا – التعبير باسم الفاعل (المربي) لمن يقوم بالتعليم بل وردت مصطلحات مثل: (المؤدِّب) و(المهذِّب)، تحدِّثُنا عنها سيَرُ الأمراء والملوك مع أبنائهم، ولا ينطبق هذا على عامة الناس، وهدفها ليس إكساب الولد العلوم بل إكسابه القيم والأخلاق والأدب الذي يمكن تسميته تجوّزًا: التربية.
أبرز المراجع العربية الجديدة التي تحمل عنوان التربية، تشير إلى تعريفات اصطلاحية وإجرائية كثيرة متماثلة في معانيها. والأبرز منها يشير إلى عمليات إكساب المتلقّي الآداب والقيم والأخلاق، وبعضها يضيف ضمنها عمليات التعليم والتدريس. (يالجن؛ 2002. الميمان؛ 2002، صالح؛ 1999، شاكر؛ 2011).
وعند تحليل تلك التعريفات الإجرائية للتربية نخرج بأربع قضايا رئيسة هي: (العمليات) التي يعبّر عنها نوع التعريف و(تحديد الهدف منها) و (القائم بالمهمة المسؤول عنها) و (المستفيد منها).
فالعمليات: تشير إلى التأديب والتزكية والتهذيب والتنشئة والتدريس والتعليم. وبعض التعريفات تعتبر العملية التربوية مرادفة للعمليات التعليمية كإجراءات تتم داخل الغرفة الصفّية.
والهدف: هو تهذيب السلوك وإكساب المعرفة.
والقائم بالمهمة والمسؤول عنها: هما الوالدان والمعلمون، ومَن في حكمهما أو مَن يقوم مقامهما.
والمستفيد: الولد والطالب.
إن تلك النتائج المزدوجة لتحليل تعريف مصطلح التربية تُثيرُ تساؤلات كثيرة منها:
1. هل التربية تعني: عمليات إكساب الأخلاق والقيم والآداب؟ أم تعني: التعليم وتدريس العلوم فقط؟ أم تعني: الاثنين معاً؟.
2. هل تهدف التربية إلى التأديب والتزكية والتهذيب؟ أم تهدف إلى إكساب المعرفة بشكل عام فقط؟ أم الاثنين معاً؟.
3. هل التربية هي مهمة الوالدين؟ أم مهمة المعلمين؟ أم مهمتهم معاً؟
4. هل المستفيد هو الطالب؟ أم الولد؟ أم كلاهما معاً؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة، لا بد من الإشارة إلى مبادئ تؤسس للوصول للإجابة الصحيحة. ومِن هذه المبادئ:
الأول: الإشكال ليس في المصطلح ذاته، حيث يمكن قبوله إن صح تعريفه.
الثاني: تحديد التعريف المانع الجامع أُحادي الاتجاه ولا يقبل التأويلات أو الاحتمالات.
الثالث: وإن تعددت الأهداف لعملٍ ما فإن هناك هدفاً أول أو غاية كبرى تسبقها.
الرابع: مصطلح التربية الوارد في هذا الكتاب يعني- تجوزًا-: عمليات التأديب والتهذيب والتزكية وبناء القيم.
وبعد التأمل يُمكن اقتراح الإجابات التالية عن هذه الأسئلة؛ وذلك للتأسيس لاستخدامٍ أسلم لمصطلح التربية؛ وبذلك تُبنى عليه العمليات التي تحقق الهدف مِن التربية والتعليم معًا، وتُحدِّد كلاً مِن المسؤول والمستفيد من التربية ومن التعليم.
السؤال الأول: العمليات
يمكن القبول – تجوّزاً- باستخدام مصطلح التربية للتعبير عن عمليات إكساب الأخلاق والقيم والآداب فقط، دون إضافةِ عملياتِ تعليم العلوم وتدريسها إليها، مع أن الأفضل هو استخدام المصطلح الدال عليها، وهو التزكية، أو التهذيب، أو التأديب، أو التنشئة، أما عمليات تدريس العلوم ونقل المعرفة المتنوعة فتسمى: عملية التعليم.
السؤال الثاني: الهدف
في حال قبولنا السابق لتعريف التربية، فإن هدفها هو التأديب والتزكية والتهذيب، وإكساب المتلقّي المعرفة المتعلقة بالقيم والأخلاق والآداب، أما هدف التعليم فهو إكساب المتلقّي المعرفة بشكل عام.
السؤال الثالث: القائم بالمهمة والمسؤول عنها
التربية كعملية إكساب للأخلاق والقيم والآداب (إذا سلّمنا بهذا المصطلح) هي مهمة الوالدين ومسؤوليتهم بالدرجة الأولى، وليست مهمة المعلمين ومسؤوليتهم، كما أن عملية التعليم مهمة المعلمين ومسؤوليتهم بالدرجة الأولى، وإن تشاركوا في العمليتين؛ فالعبرة بالقائم عليها والمسؤول عنها.
السؤال الرابع: المستفيد
بناءً على ما سبق، فالمستفيد الأول من عمليات التربية هو شخص الولد، وليس شخص الطالب لأن شخص الطالب مستفيد بصورة أساسية من عمليات التعليم والتدريس.
في الإسلام هناك فصلٌ واضحٌ بين الواجب والمسؤولية، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبُ الجميع، لكن المسؤولية تقع على عاتق المستطيع فقط، والفقهاء يفرّقون بين الفرض الواجب، وفرض الكفاية، والقانونيون يفرّقون بين المسؤولية المباشرة والمسؤولية غير المباشرة، ولا شك في أن الإنسان نتاج مجتمعه بتعدد مؤسساته، لكن مَن المسؤول المباشر عن تعليمه أو عن تأديبه؟
هل سيُحاسِب مسؤولُ المؤسسة التعليمية المعلمَ عن ضعف قيم الطالب وسوء خُلقه؟ أم سيحاسبه على ناتج عملية التعليم؟
هل سيُحاسِب الوالدان معلم ولدهم في المدرسة على أنه ضعيف القيم وسيء الأدب، أم يحاسبانه أنه ضعيف في تعلّمه.
هل المجتمع بكل أطيافه يَعْزو امتلاك الفرد لقيم جيدة إلى تربية والديه وأسرته أم إلى مدرسته.
يقول رسول الله صلّ الله عليه وسلم (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) «متفق عليه».وبهذا يتضح لنا أن المسؤول الأول عن عمليّة التربية هم الوالدان، والمسؤول الأول عن عملية التعليم هو المعلم؛ وذلك سيساعدنا على فهم الإشكال، وحل الازدواجية في العمليات وتعارض الأهداف.
الذين يَروّن الدور المزدوج للوالدين والمعلمين في عمليات التربية والتعليم ولا يفْصلون بينهما يعللون هذا الازدواج بأن الإنسان نتاج مجتمعه بكافة أطيافه ومكوناته، وهذا التعليل صحيحٌ في الغالب من حيث الإطار العام للشخصية والصفات السائدة لدى أفراد المجتمع، لكنه ليس على إطلاقه لأن الأخلاق والقيم التي لدى الفرد في بداية حياته تلقّاها من والديه بالدرجة الأولى، فبيت الأسرة هو المحضن الأول له، ووالداه هما المؤثران الأبرزان في إكسابه القيم والأخلاق، وفي تشكيل غالب سلوكه، أيًا كانت طبيعة ذلك السلوك، صوابًا أو خطأً، فهما اللذان على يديهما تتشكل شخصية الولد، وسلوكه، وذلك بحسب نتاج معتقداته وقيمه وأخلاقه التي أنشأه عليها والداه، وحين يشب عن الطوق إما أن يظل على ما أنشأه عليه والداه أو يكوّن هو منظومته الأخلاقية والقيمية الخاصة به، متأثراً بقيم مجتمعه، ويختلف الأفراد في تأثرهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه..
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ). وعلى ذلك فإن الإنسان وإن كان نتاج مجتمعه، إلا أن المؤثر الأبرز فيه هما الوالدان.
مصطلح التربية كما تم إيضاحه سابقًا؛ يعني لغة التغذية والتنمية، وتعاريفه الاصلاحية والإجرائية السائدة تجمع في أغلبها بين عمليات إكساب الأخلاق والقيم والأدب، وبين عمليات إكساب المعرفة في العلوم المتعددة، وهذا خطأٌ منهجيٌ من وجهة نظرنا؛ ترَك أثراً غير محمودٍ في واقع التربية والتعليم على حدٍ سواء، أدى إلى تقاذف الأدوار والمسؤوليات بين البيت والمدرسة، واللوم المتبادل بين المعلمين والوالدين فيما يتعلق بتدني مستوى الأداء التعليمي، وغياب أو سوء أخلاق الأبناء والطلبة، وضَعْف القيَم لديهم.
وضاعت المسؤولية بين الوالدين والمعلمين، وكلٌّ يُحمِّل المسؤولية على الآخَر، ولا ينظر إلى تقصيره في واجبه، بل يركّز على تقصير الطرف الآخر.
فأضحى الولد/الطالب هو الضحيّة لهذه الازدواجية، فلم يَحظَ بتربية سليمة من والديه، ولم يتلقّ تعليمًا جادًا من معلميه.
وعليه فإننا نقترح أمرين:
الأول: استبدال مصطلح التربية بمصطلح آخر يدل على عمليات إكساب الأخلاق والقيم والآداب، متضمناً أفعال التأديب والتزكية والتهذيب، ونقترح مصطلح التنشئة، يقول الله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) الزخرف 89.
ويقول أبو العلاء المعري:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
كما ندعو المهتمين من المفكرين والباحثين إلى إقتراح تعريف اصطلاحي إجرائي جديد لمصطلح التربية السائد، وهو نفسه تعريف (التنشئة)، ونقترح التعريف التالي: (العمليات التي يقوم بها الوالدان ومن في حكمهما، وتقع المسؤولية الشرعية القانونية عليهم لتأديب أولادهم، وإكسابهم الأخلاق والقيم؛ التي تساعدهم على تزكية أنفسهم، ويساندهم في تلك العمليات جميع الذين لهم علاقة بأولادهم كالأقارب والجيران والمعلمين وقادة الرأي في المجتمع).
أما مصطلح التعليم فهو واضح ولا يحتاج إلى بيان.
الثاني: ندعو المهتمين بالموضوع بعد إعادة التعريف الإجرائي للتربية بشكل صحيح، إلى التأكيد نظريًا وعمليًا على تحديد المسؤولية المباشرة عن التربية أنها على الوالدين، والمسؤولية المباشرة عن التعليم أنها على المعلمين، مع الإشارة إلى أهمية مساندة كلٍ منهم للآخر، وكذلك الحديث عن هذا الإشكال في البحوث والمنتديات والمنابر العلمية، ووصولاً إلى تصحيح المفهوم؛ وتحسين أداء الوالدين والمعلمين، وتحمُّلهم للوفاء بواجباتهم ومسؤولياتهم الأساس.
وعلى ما سبق فإننا نرى أن مسؤولية تمكين القيم عند أفراد المجتمع في مراحل نموهم الأولى؛ تقع على الوالدين، ومن في حكمهما، فليست التغذية والرعاية؛ التي تقابل مصطلح التربية هي مهمتهم الوحيدة، بل إن عليهم مهمة التنشئة والتأديب والتهذيب، التي هي في مجملها بناء الأخلاق والقيم، وتمكينها لدى أبنائهم.
والسؤال المهم الذي يطرحه الوالدان، ويجدر بنا الإجابة عليه؛ بشكل عملي، هو كيف يمكن غرس القيم وتعزيزها، وتمكين أبنائهم منها؟
الإجابة موجودة في الجزء الثاني من هذا الكتاب، حين سنتحدث عن مسارات تمكين القيم الخمسة وهي (تهيئة البيئة، التعليم، التدريب، الإلهام، التثقيف) وكلها مسارات يمكن للوالدين اختيار ما يتناسب مع بيئاتهم وإمكاناتهم وأبنائهم؛ الذين تحت رعايتهم؛ لتمكينهم من القيم التي تَبني شخصياتهم، وتعدّهم للحياة داخل وخارج حدود الأسرة.